كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فقرىء بتشديد الذال وتخفيفها، ومعنى لعل قد تقدم في سورة البقرة، قال القاضي لعل بمعنى كي، وهذا يدل على أنه سبحانه أراد من جميعهم أن يتذكروا والجواب: أنه سبحانه لو أراد ذلك من الكل لما قوى دواعيهم إلى جانب المعصية، ولو لم توجد تلك التقوية لزم وقوع الفعل لا لمرجح، ولو جاز ذلك لما جاز الاستدلال بالإمكان والحدوث على وجود المرجح ويلزم نفي الصانع، وإذا كان كذلك وجب حمل لعل على سائر الوجوه المذكورة في سورة البقرة واعلم أنه سبحانه ذكر في هذه السورة أحكامًا كثيرة:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.
اعلم أن قوله تعالى: {الزانية والزاني} رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه على معنى: فيما فرض الله عليكم الزانية والزاني أي فاجلدوهما، ويجوز أن يكون الخبر فاجلدوا وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمنه معنى الشرط تقديره التي زنت والذي زنى فاجلدوهما كما تقول من زنا فاجلدوه، وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، وقرئ والزان بلا ياء، واعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين: أحدهما: ما يتعلق بالشرعيات والثاني: ما يتعلق بالعقليات ونحن نأتي على البابين بقدر الطاقة إن شاء الله تعالى.
النوع الأول: الشرعيات، واعلم أن الزنا حرام وهو من الكبائر ويدل عليه أمور: أحدها: أن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يلق آثامًا} [الفرقان: 68] وقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، وثانيها: أنه تعالى أوجب المائة فيها بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر، وشرع فيه الرجم، ونهى المؤمنين عن الرأفة وأمر بشهود الطائفة للتشهير وأوجب كون تلك الطائفة من المؤمنين، لأن الفاسق من صلحاء قومه أخجل وثالثها: ما روى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأما التي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى وسوء الحساب وعذاب النار» وعن عبد الله قال قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قلت ثم أي؟ قال، وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك قلت: ثم أي؟ قال: وأن تزني بحليلة جارك» فأنزل الله تعالى تصديقها: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] واعلم أنه يجب البحث في هذه الآية عن أمور: أحدها: عن ماهية الزنا وثانيها: عن أحكام الزنا وثالثها: عن الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجبًا لتلك الأحكام ورابعها: عن الطريق الذي به يعرف حصول الزنا وخامسها: أن المخاطبين بقوله: {فاجلدوهم} [النور: 4] من هم؟ وسادسها: أن الرجم والجلد المأمور بهما في الزنا كيف يكون حالهما؟.
البحث الأول: عن ماهية الزنا قال بعض أصحابنا إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعًا محرم قطعًا وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اختلفوا في أن اللواطة هل ينطلق عليها اسم الزنا أم لا؟ فقال قائلون نعم.
واحتج عليه بالنص والمعنى، أما النص فما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» وأما المعنى فهو أن اللواط مثل الزنا صورة ومعنى.
أما الصورة فلأن الزنا عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعًا محرم قطعًا، والدبر أيضًا فرج لأن القبل إنما سمى فرجًا لما فيه من الانفراج، وهذا المعنى حاصل في الدبر أكثر ما في الباب أن في العرف لا تسمى اللواطة زنا ولكن هذا لا يقدح في أصل اللغة، كما يقال هذا طبيب وليس بعالم مع أن الطب علم، وأما المعنى فلأن الزنا قضاء للشهوة من محل مشتهى طبعًا على جهة الحرام المحض، وهذا موجود في اللواط لأن القبل والدبر يشتهيان لأنهما يشتركان في المعاني التي هي متعلق الشهوة من الحرارة واللين وضيق المدخل، ولذلك فإن من يقول بالطبائع لا يفرق بين المحلين، وإنما المفرق هو الشرع في التحريم والتحليل، فهذا حجة من قال اللواط داخل تحت اسم الزنا، وأما الأكثرون من أصحابنا فقد سلموا أن اللواط غير داخل تحت اسم الزنا واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: العرف المشهور من أن هذا لواط وليس بزنا وبالعكس والأصل عدم التغيير وثانيها: لو حلف لا يزني فلاط لا يحنث وثالثها: أن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة فلو سمي اللواط زنًا لأغناهم نص الكتاب في حد الزنا عن الاختلاف والاجتهاد، وأما الحديث فهو محمول على الإثم بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» وقال عليه الصلاة والسلام: «اليدان تزنيان والعينان تزنيان» وأما القياس فبعيد لأن الفرج وإن كان سمي فرجًا لما فيه من الانفراج فلا يجب أن يسمى كل ما فيه انفراج بالفرج وإلا لكان الفم والعين فرجًا، وأيضًا فهم سموا النجم نجمًا لظهوره، ثم ما سموا كل ظاهر نجمًا.
وسموا الجنين جنينًا لاستناره، وما سموا كل مستتر جنينًا، واعلم أن للشافعي رحمه الله في فعل اللواط قولان أصحهما عليه حد الزنا إن كان محصنًا يرجم، وإن لم يكن محصنًا يجلد مائة ويغرب عامًا وثانيهما: يقتل الفاعل والمفعول به سواء كان محصنًا أو لم يكن محصنًا، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» ثم في كيفية قتله أوجه: أحدها: تحز رقبته كالمرتد وثانيها: يرجم بالحجارة وهو قول مالك وأحمد وإسحق وثالثها: يهدم عليه جدار، يروى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ورابعها: يرمى من شاهق جبل حتى يموت، يروى ذلك عن علي عليه السلام وإنما ذكروا هذه الوجوه: لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك فقال تعالى: {جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} [هود: 82] وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يحد اللوطي بل يعذر، أما المفعول به فإن كان عاقلًا بالغًا طائعًا فإن قلنا على الفاعل القتل فيقتل المفعول به على صفة قتل الفاعل للخبر، وإن قلنا على الفاعل حد الزنا فعلى المفعول به مائة جلدة وتغريب عام محصنًا كان أو غير محصن، وقيل إن كانت امرأة محصنة فعليها الرجم، وليس بصحيح لأنها لا تصير محصنة بالتمكين في الدبر فلا يلزمها حد المحصنات كما لو كان المفعول به، ذكر حجة الشافعي رحمه الله على وجوب الحد من وجوه: الأول: أن اللواط، إما أن يساوي الزنا في الماهية أو يساويه في لوازم هذه الماهية وإذا كان كذلك وجب الحد بيان الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» فاللفظ دل على كون اللائط زانيًا، واللفظ الدال بالمطابقة على ماهية دال بالالتزام على حصول جميع لوازمها، ودلالة المطابقة والالتزام مشتركان في أصل الدلالة، فاللفظ الدال على حصول الزنا دال على حصول جميع اللوازم، ثم بعد هذا إن تحقق مسمى الزنا في اللواط دخل تحت قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا} وإن لم يتحقق مسمى الزنا وجب أن يتحقق لوازم مسمى الزنا لما ثبت أن اللفظ الدال على تحقق ماهية دال على تحقق جميع تلك اللوازم ترك العمل به في حق الماهية فوجب أن يبقى معمولًا به في الدلالة على جميع تلك اللوازم، لكن من لوازم الزنا وجوب الحد فوجب أن يتحقق ذلك في اللواط.
أكثر ما في الباب أنه ترك العمل بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» لكن لا يلزم من ترك العمل هناك تركه هاهنا الثاني: أن اللائط يجب قتله فوجب أن يقتل رجمًا بيان الأول: قوله عليه السلام: «من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل منهما والمفعول به» وبيان الثاني: أنه لما وجب قتله وجب أن يكون زانيًا وإلا لما جاز قتله لقوله عليه السلام: «لا يحل دم امرىء مسلم إلا لإحدى ثلاث» وهاهنا لم يوجد كفر بعد إيمان ولا قتل نفس بغير حق فلو لم يوجد الزنا بعد الإحصان لوجب أن لا يقتل، وإذا ثبت أنه وجد الزنا بعد الإحصان وجب الرجم لهذا الحديث الثالث: نقيس اللواط على الزنا، والجامع أن الطبع داع إليه لما فيه من الالتذاذ وهو قبيح فيناسب الزجر، والحد يصلح زاجرًا عنه.
قالوا: والفرق من وجهين: أحدهما: أنه وجد في الزنا داعيات، فكان وقوعه أكثر فسادًا فكانت الحاجة إلى الزاجر أتم الثاني: أن الزنا يقتضي فساد الأنساب والجواب: إلغاؤهما بوطء العجوز الشوهاء واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه: أحدها: اللواط ليس بزنا على ما تقدم فوجب أن لا يقتل لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرىء مسلم إلا لإحدى ثلاث» وثانيها: أن اللواط لا يساوي الزنا في الحاجة إلى شرع الزاجر، ولا في الجناية فلا يساويه في الحد بيان عدم المساواة في الحاجة.
أن اللواطة وإن كانت يرغب فيها الفاعل لكن لا يرغب فيها المفعول طبعًا بخلاف الزنا، فإن الداعي حاصل من الجانبين، وأما عدم المساواة في الجناية فلأن في الزنا إضاعة النسب ولا كذلك اللواط، إذا ثبت هذا فوجب أن لا يساويه في العقوبة، لأن الدليل ينفي شرع الحد لكونه ضررًا ترك العمل به في الزنا، فوجب أن يبقى في اللواط على الأصل وثالثها: أن الحد كالبدل عن المهر فلما لم يتعلق باللواط المهر فكذا الحد والجواب: عن الأول أن اللواط وإن لم يكن مساويًا للزنا في ماهيته لكنه يساويه في الأحكام وعن الثاني: أن اللواط وإن كان لا يرغب فيه المفعول لكن ذلك بسبب اشتداد رغبة الفاعل، لأن الإنسان حريص على ما منع وعن الثالث: أنه لابد من الجامع، والله أعلم.
المسألة الثانية:
أجمعت الأمة على حرمة إتيان البهائم.
وللشافعي رحمه الله في عقوبته أقوال: أحدها: يجب به حد الزنا فيرجم المحصن ويجلد غير المحصن ويغرب والثاني: أنه يقتل محصنًا كان أو غير محصن.
لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» فقيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ فقال: ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها، وقد عمل بها ذلك العمل والقول الثالث: وهو الأصح وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأحمد رحمهم الله: أن عليه التعزير لأن الحد شرح للزجر عما تميل النفس إليه، وهذا الفعل لا تميل النفس إليه، وضعفوا حديث ابن عباس رضي الله عنهما لضعف إسناده وإن ثبت فهو معارض بما روي أنه عليه السلام نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله.
المسألة الثالثة:
السحق من النسوان وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها إلا التعزير.
البحث الثاني: عن أحكام الزنا.
واعلم أنه كان في أول الإسلام عقوبة الزاني الحبس إلى الممات في حق الثيب، والأذى بالكلام في حق البكر.
قال الله تعالى: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهنَّ سَبيلًا واللذان يأتيانها مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} [النساء: 15، 16] ثم نسخ ذلك فجعل حد الزنا على الثيب الرجم وحد البكر الجلد والتغريب، ولنذكر هاتين المسألتين:
المسألة الأولى:
الخوارج أنكروا الرجم واحتجوا فيه بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} [النساء: 25] فلو وجب الرجم على المحصن لوجب نصف الرجم على الرقيق لكن الرجم لا نصف لها وثانيها: أن الله سبحانه ذكر في القرآن أنواع المعاصي من الكفر والقتل والسرقة، ولم يستقص في أحكامها كما استقصى في بيان أحكام الزنا، ألا ترى أنه تعالى نهى عن الزنا بقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] ثم توعد عليه ثانيًا بالنار كما في كل المعاصي، ثم ذكر الجلد ثالثًا ثم خص الجلد بوجوب إحضار المؤمنين رابعًا، ثم خصه بالنهي عن الرأفة عليه بقوله: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ الله} خامسًا، ثم أوجب على من رمى مسلمًا بالزنا ثمانين جلدة، وسادسًا، لم يجعل ذلك على من رماه بالقتل والكفر وهما أعظم منه، ثم قال سابعًا: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ثم ذكر ثامنًا من رمى زوجته بما يوجب التلاعن واستحقاق غضب الله تعالى ثم ذكر تاسعًا أن {الزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]، ثم ذكر عاشرًا أن ثبوت الزنا مخصوص بالشهود الأربعة فمع المبالغة في استقصاء أحكام الزنا قليلًا وكثيرًا لا يجوز إهمال ما هو أجل أحكامها وأعظم آثارها، ومعلوم أن الرجم لو كان مشروعًا لكان أعظم الآثار فحيث لم يذكره الله تعالى في كتابه دل على أنه غير واجب وثالثها: قوله تعالى: {الزانية والزانى فاجلدوا} يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة، وإيجاب الرجم على البعض بخبر الواحد يقتضي تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، وهو غير جائز.
لأن الكتاب قاطع في متنه، وخبر الواحد غير قاطع في متنه، والمقطوع راجح على المظنون، واحتج الجمهور من المجتهدين على وجوب رجم المحصن لما ثبت بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك، قال أبو بكر الرازي روى الرجم أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة وبعض هؤلاء الرواة روى خبر رجم ماعز وبعضهم خبر اللخمية والغامدية وقال عمر رضي الله عنه: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لأثبته في المصحف.